الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران أمر بواسطة وأمر بغير واسطة إلى آخره - فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة وكذلك كلم محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة المعراج وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية وأما الأمر الكوني فقول القائل: أنه لا بواسطة خطأ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض وأمر التكوين ليس هو خطاباً يسمعه المكون المخلوق فإن هذا ممتنع ولهذا قيل إن كان هذا خطاباً له بعد وجوده لم يكن قد كون به بل كان قد كون قبل الخطاب وإن كان خطاباً له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع وقد قيل في جواب هذا أنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدوماً في العين وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهراً وباطناً فكان قوله " لا تقرب " ظاهراً وكان أمره " بكل " باطناً فيقال: إن أريد بكونه قال كل باطناً أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع أو دين فهذا كذب وكفر وإن كان أراد أبه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن كل مثل قوله أنه قال للكافر: اكفر وللفاسق افسق والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان وإن كان ذلك واقعاً بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني - فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: " ولو كان القدر حجة وعذراً لم يكن إبليس ملوماً معاقباً ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار ولا كان جهاد الكفار جائزاً ولا إقامة الحدود جائزاً لا قطع السارق ولا جلد الزاني ولا رجمه ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزماً مع الآخر نوعاً من الشرع فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده لكن الشرائع تتنوع فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل وتارة لا تكون كذلك ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم. وتارة لا تغير ولا تبدل وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل. أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند إتباع هواه فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر كما قال المشركون " وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاماً فحج آدم موسى - لم يكن آدم عليه السلام محتجاً على فعل ما نهي عنه بالقدر ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا فكيف آدم وموسى وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه فكيف بنبي من الأنبياء وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها كيف وقد قال موسى: " . في صفة المؤمنين: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر وقد قال تعالى: " وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور وهذا أعظم الضلال ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكل باطناً فأكل وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد فغير الله عليه وقال: " فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك ولم يقل أن الله ظلمني ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل قال تعالى: " وأما قول القائل أن قوله: " الوجه الثاني: إن قوله: " ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر. ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب وقال شاهت الوجوه ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته يقول وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه وهو الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهماً فأوصلها بقدرته. الوجه الثالث: إنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: " وقال تعالى: " الوجه الرابع: إن قوله تعالى: " فقوله: " فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وإن الله إذا كان قد قال لنبيه: " ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه بعينه بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه وقوله: " أتاني البارحة ربي في أحسن صورة " الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسراً وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: " المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عياناً وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع. والقول الثاني: قول نفاة الجهمية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. والثالث: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة. وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم. ثم من أثبت الذات قال: يرى متجلياً فيها ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيداً بصورة وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله وإثبات المخلوقات ويجعلون المخلوق هو الخالق أو يجعلون الخالق حالاً في المخلوق وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً يقتضي أن يكون الرب معدوماً وهذا هو جحود الرب وتعطيله وإن جعلوه ثابتاً في الخارج جعلوه جزءاً من الموجودات فيكون الخالق جزءاً من المخلوق أو عرضاً قائماً بالمخلوق وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. وأما تناقضه فقوله: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين يقتضي المغايرة وأن المخاطَب غير المخاطِب وأن المخاطب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود. وقوله: ما بينكم وبيننا من بين فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين وإن قالوا مظاهر ومجالي قيل فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما تناقض وقول القائل: إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع وهو المخاطب بقوله: " وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله: " كل دعواك محال " وهو القائل هذا القول وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى. وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لا بد أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجود أو الرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه يستحيل عليه نقيض ذلك فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفاً بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي وكل ذلك ممتنع وبسط هذا يطول ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته بل الرب رب والعبد عبد " وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة منها أنه قال: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة ثم قال: " وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب لي بالنوافل حتى أحبه " فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه فإذا أحبه كان العبد يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث فالحديث مخصوص بحال مقيد وهم يقولون بالإطلاق والتعميم فأين هذا من هذا وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا. فيجعلون هذا حجة لقولهم أنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة وهذا الحديث حجة عليهم - في هذا - أيضاً فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة فالمنكرون الذين قالوا نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا هؤلاء الملاحدة يقولون أن العارف يعرفه في كل صورة فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: " وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون " ثم يقال لهؤلاء الملاحدة إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال ما أبصر غيره أبول عليه فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو قال: فرجت عني. ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضاً من ذاته فقال التلمساني: هل ثم شيء خارج عنها وكان التلمساني قد أضل شيخاً زاهداً عابداً ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله. ويقول نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه ويجعل هذا الكلام له تسبيحاً يتلوه كما يتلو التسبيح. وأما قول الشاعر: فشاهد حقاً حين يشهده الهوى بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر وبالمعروف عن المعرفة وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه عن حب ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. وأما النوع الثالث: من الفناء وهو الفناء عن وجود السوى بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق - فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل قال: هذا لا يحمد أصلاً بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحداً ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر وأما قول القائل: أنظر لتراني منظراً معتبراً ما فيّ سوى وجود من أوجدني فهو من قول هؤلاء الملاحدة وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده كان ذلك الوجود هو الكون المنادي وهو المخاطب المنادى وهو الأشتات المؤلفة المفرقة وهو المخاطب الذي قيل له: انظر وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي قد أوجد نفسه وفرقها وألفها فهذا جمع بين النقيضين فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم فممتنع أن يكون الشيء الواحد قابلاً للعدم غير قابل للعدم والقديم هو الذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي له أول فيمتنع كون الشيء الواحد قديماً محدثاً ولولا أن قد علم مرادهم بهذا القول لأمكن أن يراد بذلك: ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك لكن قد علم أنه لم يرد هذا ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته وهكذا قول القائل: وله ذات وجود ال كون الحق شهود أنه ليس لموجو د سوى الحق وجود مراده أن وجود الكون هو نفس وجود الحق وهذا هو قول أهل الوحدة وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء موجود من نفسه وإنما وجوده من ربه والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة - لكان قد أراد معنى صحيحاً وهو الذي عليه أهل العقل والدين من الأولين والآخرين وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض ولهذا يقولون الشيء ونقيضه وإلا فقوله: منه وإلى علاه يبدي ويعيد يناقض الوحدة فمن هو البادئ والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحد وقوله: وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل مستحيل يناقض الوحدة لأن الظل مغاير لصاحب الظل فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين كما إذا شبهه بالشعاع فإن شعاع الشمس ليس هو نفسه قرص الشمس وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا. وقلت لمن حضرني منهم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار والخالق بالنار والشمس فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا وجعلت أردد عليه هذا الكلام وكان في المسجد جماعة حتى فهمه جيداً وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له وإن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل وذكرت له أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم منها فإن المسيح صلى الله عليه وسلم وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر كالذين قالوا: " وأما إنزال المائدة من السماء فقد كان ينزل على عسكر موسى كل يوم من المن والسلوى وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك فإن الحلو أو اللحم دائماً هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة من الزيتون والسمك وغيرهما وذكرت له نحواً من ذلك مما تبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه وإن سائر ما يذكر فيه أما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من المخلوقات وإما أن يكون مشتركاً بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى قد يكون أكمل في ذلك منه وأما خلقه من امرأة بلا رجل فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك فإنه خلق من بطن امرأة وهذا معتاد بخلاف الخلق من ضلع رجل فإن هذا ليس بمعتاد فما من أمر يذكر في المسيح صلى الله عليه وسلم إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم. فعلم قطعاً أن تخصيص المسيح باطل وأن ما يدعى له أن كان ممكناً فلا اختصاص له به وإن كان ممتنعاً فلا وجود له فيه ولا في غيره ولهذا قال هؤلاء الاتحادية أن النصارى إنما كفروا بالتخصيص وهذا أيضاً باطل فإن الاتحاد عموم وخصوص والمقصود هنا أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة وكذلك قول الآخر: أحن إليه وهو قلبي وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري وما بعده إلا لإفراط قربه هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض ولهذا قال وهل يرى أخو وجد يحن لقلبه وقوله: وما بعده إلا لإفراط قربه متناقض فإنه لا قرب ولا بعد عند أهل الوحدة فإنها تقتضي أن يقرب أحدهما من الآخر والواحد لا يقرب من ذاته ويبعد من ذاته. وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضاً من قول أهل الوحدة وهو مع كفره قول متناقض فإنه يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد وأن أقوال المشركين الذين قالوا: " وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجودان كان أحداً كان إثبات التعدد تناقضاً فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد كان هذان قولين متناقضين فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر وإذا قال الألسنة كلها لسانه فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد. فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا منها عين وجود هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس ويقسمها المنطقيون إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود فإذا كان وجود الفلك مبايناً مخالفاً لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر. وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال لا يعرف التوحيد إلا الواحد ولا تصح العبارة عن التوحيد وذلك لا يعبر عنه إلا بغير ومن أثبت غيراً فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره متناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحداً يعرفه وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه فقوله بعد هذا من أثبت غيراً فلا توحيد له يناقض هذا وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد كفر بإجماع المسلمين فإن الله قد عبر عن توحيده ورسوله عبر عن توحيده والقرآن مملوء من ذكر التوحيد بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد وقد قال تعالى: " وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً - التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله ولا يطلق عليه بأنه غير الله لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه ويراد به ما لم يكن إياه وصفة الله ليست إياه ففي أحد الاصطلاحين يقال إنه غير وفي الاصطلاح الآخر لا يقال إنه غير فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقروناً ببيان المراد لئلا يقول المبتدع إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد وهو قول الجهمية الذي كفرهم السلف والأئمة تكفيراً مطلقاً وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها. وأيضاً فيقال لهؤلاء الملاحدة إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفراً وضلالاً فمن قال إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلاماً لله وأما هذا اللحيد فزاد على هؤلاء فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده لم يجعل ذلك كلاماً له بل يقال أن يكون هنا كلام لئلا يثبت غير آله وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى وإن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى: " وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط قال: أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه. وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيراً لنفسه والله يحب نفسه وقوله ما ثم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة - قوله: لا تكون إلا من غير لغير وقوله: غير ما ثم - فإن الغير موجود والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض. وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب ولو أنصف الناس ما رأوا عابداً ولا معبوداً - كلا المقدمتين باطل فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: " هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابداً ولا معبوداً يعاملك بموجب مذهبك فيضرب ويوجع ويهان ويصفع ويظلم فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى وقيل له ما ثم غير ولا عابد ولا معبود فلم يفعل بك هذا غيرك بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه قيل له: فقل أيضاً عبد نفسه فإذا أثبت ظالماً أو مظلوماً وهماً واحد فأثبت عابداً ومعبوداً وهما واحد. ثم يقال له هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح وهذا الذي شبع وروى هو نفس هذا الذي جاع وعطش فإن اعترف بأنه غيره أثبت المغايرة وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا فبين العابد والمعبود أولى وأحرى وإن قال هو هو عومل معاملة جنس السوفسطائية فإن هذا القول من أقبح السفسطة فيقال إذا كان هو هو فنحن نضربك ونقتلك والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: " ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وأظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام ومشايخ الإسلام وأهل التوحيد والتحقيق وأفضل أهل الطريق حتى يفضلهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأحوال وإيضاح هذا الضلال: ولكن يعلم بذلك أن الضلال حد له وإنه إذا كررت العقول لم يبق لضلالها حد معقول فسبحان من فرق في نوع الإنسان فجعل منه من هو أفضل العالمين وجعل منه من هو من شرار الشياطين ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب هو الذي يوجب جهاد الملحدين الذين يفسدون الدنيا والدين والمقصود هنا رد هذه الأقوال وبيان الهدى من الضلال وأما توبة من قالها وموته على الإسلام فهذا يرجع إلى الملك العلام فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ومن الممكنات أنه قد تاب جل أصحاب هذه المقالات والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين كما قال تعالى: " والحكاية المذكورة عن الذي قال إنه التقم العالم كله وأراد أن يقول أنا الحق وأختها التي قيل فيها إن الإلهية لا يدعها إلا أجهل خلق الله وأعرف خلق الله - هو من هذا الباب والفقير الذي قال ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إلى مثل فرعون ونمرود وأمثالهما هو الذي نطق بالصواب وسدد الخطاب ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله ويدعون أنهم من موسى وأمثاله حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء ودعاه إلى هذا القول وزينه له فحدثني بذلك فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم وإن قولهم من جنس قول فرعون فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون فقال: نعم ونحن على قول فرعون وكان عبد السيد لم يسلم بعد فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون قال له: ولم قال: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله موسى لا بكونه كان رسولاً صادقاً قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون قال: نعم قلت: فمن سمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون فإذا كان قد أقر بهذا حصل المقصود. فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل والواجب إنكارها فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى الذي لا يضل به المسلمون لا سيما وأقوال هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: " وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحاً فإن ما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضاً وقد علم مقصودهم بالضرورة فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها أو خيف عليه أن يحسن الظن بها وأن يضل فإن ضرر هذه على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يُعرفون أنهم سراق وخونة فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سبباً لرحمته في الآخرة وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله ويظهرون كلام الكفار والمنافقين في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمناً ولياً لله فيصير منافقاً عدواً لله. ولقد ضربت لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم فذهبوا بهم إلى قبرص فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى وهؤلاء يجعلوننا شراً من النصارى والأمر كما قاله هذا القائل. وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم فمنهم من دخل في اتحادهم وفهمه وصار منهم ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم ويعظم ما لا يفهم ويصدق بالمجهولات وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله ويوالي المشركين وأهل الكتاب ظاناً أنهم من أهل الإيمان وأولي الألباب وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين ما لا يحصيه إلا رب العالمين وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب والله أعلم. انتهت الرسالة.
|